خالد عزب يكتب: مسامرات ابن عزب المطوبسى

السبت، 29 يوليو 2017 09:00 م
خالد عزب يكتب: مسامرات ابن عزب المطوبسى الدكتور خالد عزب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يبدو الأمر فى الحياة بسيطاً لمن يراه عن قُرب، ويبدو صعباً لمن يراه عن بُعد، لكنه عند صاحبه رحلة كفاح تبدو فيها الأحلام حاضرة بقوة، فهل كان صاحبنا يُدرك ما يفعله أم كان يتصرف بتلقائية، فى حقيقة الأمر أن الأمر كان تحدياً، فأين بذاك الذى وُلد وعاش جانباً من الزمن فى ريف مصر أن يقهر هذه المدينة الكبيرة أم أن المدينة الكبيرة ستقهره.
وُلد صاحبنا فى مطوبس حين كانت قرية كبيرة تتبع مركز فوه محافظة كفر الشيخ فى يوم 15 مايو 1966م فى بيت جده الذى كنا ندعوه سيدى عبد الرازق السايس، هذا البيت الصغير الذى يرى فيه صاحبنا ذكريات لا تُنسى، كان سيدى (جدى) وستى (جدتى) حكمة سلام يرون فى صاحبنا ذا العينين الخضراوتين أمل العائلة فهو أول الأحفاد من أب هو محمد مصطفى عزب مدرس اللغة الإنجليزية الذى اشتهر فى البلدة وما حولها ببراعته وتمكنه من اللغة الإنجليزية، وسيدة هى آمال عبد الرازق السايس.
 
حملت من ستى "حكمة" الكثير، فهى سيدة ذات شخصية قوية ذكية بالفطرة، تحفظ من التراث أشعاراً وتحكى حكايات الأسرة، لذا كانت حكيمة فكانت اسما على مسمى، تعلمت من هذه السيدة، التى لا تجيد الكتابة، الكثير دون أن أدرى، فكانت معايشتى لها سنوات هى نقل الخبرات، كانت ماهرة فى الحساب فكان والدها وهى طفلة تعد له النقود وتذكره بحساباته، فأشتهر أمرها فى عائلتها.
 
لكنها كانت شخصية عنيدة أورثتنى شيئاً من عندها الصبور، كانت هى سبب تعلقى بالتاريخ والآثار، حيث الكوم الأحمر وهى تل أثرى إلى جوار بلدتنا، هى نطوبس القديمة، وهى ميناء يونانى أسسه بحاره يونانيون صغار على شاطىء المتوسط، حين كان البحر المتوسط على شاطئ بلدتنا فى بدايات الدولة الحديثة الفرعونية، ونسج أهالى قريتنا حول الكوم الأحمر حكايات وأساطير حول الديك الذى يؤذن به فجراً والكنز من الذهب، لدرجة أننى وأنا صغير السن ذهبت خلسة لأرها فالنداهة لمعرفة الآثار خطفتنى وسرقت عقلى، فرأيت هذا التل الأثرى الكبير، وعرفت من حكايات ستى أن الإنجليز عثروا به على كنوز نُقلت للمتحف المصرى، فكانت هذه حفائر جمعية اكتشاف مصر البريطانية الشهيرة، وكان سبب عملها فى التل هو مشروع مد خط سكة حديد يربط بين الإسكندرية وكفر الشيخ والمنصورة، لكن هذا الخط لم يكتمل وتوقف بعد قريتنا بمسافة قصيرة عند قرية أخرى تُدعى أبو غنيمة.
 
ظل التل أو الكوم الأحمر الذى استمد اسمه من لونه حديث أهل القرية، فهو محير لهم، البعض يروى عنه أساطير مثل أن الله خسف بأهل الكوم الأرض، لكنى حين كبرت وعرفت بعد البحث أن هذه القرية اليونانية دُمرت فى زلزال عنيف دمر دلتا النيل والإسكندرية حتى سقط قصر كليوباترا فى الميناء الشرقى.
 
صاحبنا قاده الكوم الأحمر إلى التأمل كثيراً، هل روايات الجدات وأهلنا فى القرى والمدن لها صدى من الواقع، فى حقيقة الأمر نعم، لكنك لو تأملت قريتنا حينئذ فى ستينيات القرن العشرين ومعظم منازلها بلا كهرباء، ستجد بساطة فى الحياة، أناس يبتسمون يحيون حياة آمنة، كل أملهم فى الحياة هو الراحة، كان سيدى يصطحبنى وأنا أمسك يده إلى "المغارة" محل عمله حيث كان يبيع الأرز والفول والعدس وغيرها، وكان يظن أن القرية هى العالم كله، كذا حينما بدأ وعيه ينضج وهو ابن الاثنى عشر عاماً، أدرك أن كلمة مغارة ليست مصرية، بل هى آتية من بلاد أخرى إذ لا يطلق على المحال مغارة فى بعض المدن المجاورة، وحين التحق بالجامعة أدرك أن كلمة أمازيغية، جاءت مع أولئك الأندلسيين والمغاربة الذين استوطنوا مطوبس فى أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، فأحدثوا بها ثورة عمرانية، فبنى مسجدا جديدا إلى الشمال من قرية صغيرة عُرف بمسجد عامر، وحوله محلات تجارية شكلّت سوقاً كبيرة للقرى المجاورة، وأصبحت مطوبس محطة مهمة لتجارة الأرز والحرير والحصير، فيما تخصصت القرية المقابلة لها على شاطئ النيل "ادفينا" بصناعة الفخار، وبجوار المسجد بُنىِ حمام كبير ظل موجود إلى أوائل القرن العشرين.
هذه القرية شهدت ثورة أخرى مع بدايات القرن العشرين، إذ نمى وعى أهلها، فكبار القرية ومنهم العمدة وهو منصب تناقلته عائلات عديدة، عرفوا أن التعليم هو مستقبل أبنائهم فسارعوا إلى التبرع ببيوتهم لفتح مدارس ابتدائية، خاصة أن صعود سعد زغلول لمنصب رئيس الوزراء وهو من قرية أخرى مجاورة ونبوغ الدكتور على إبراهيم الذى أصرت والدته وهى من مطوبس على تعليمه وهى السيدة الأمية، فطُلّقت من والده بسبب إصرارها على تعليم ابنها، الذى صار طبيباً مشهوراً، ووزيراً للصحة، وكانت جدتى تروى لى أن لها ابن عم التحق بكلية الحقوق وأصبح من كبار المحامين فى مدينة طنطا، كل هذا من غير نظرة أهل القرية لواقعهم، فاعتبروا التعليم معركتهم الكبرى.
 
ساعد على هذا أن الملك فاروق افتتح فى تفتيشه الزراعى مدرسة للتعليم الثانوى قريبة من القرية، فالتحق بها نبهاء القرية وكان منهم والدى الذى تفوق فى شهادة البكالوريا "الثانوية العامة"، وأراد الالتحاق بكلية الطب إلا أن والده أبى ذلك، وألحقه بمعهد المعلمين العالى سنتين ليتخرج سريعاً ليساعده.
 
كانت قريتنا الكبيرة عن غيرها مركزاً ومحوراً هاماً لما يقرب من 40 قرية حولها، خاصة فى السوق الأسبوعى الذى يُقام كل يوم خميس حيث يأتى الفلاحون ببضائعهم ليبيعوها ويشترون ما يرغبون فيه، لتبرز فى القرية حركة تجارية كبيرة تزداد يوماً بعد يوم منذ بدايات القرن العشرين باستصلاح البرارى، وهى الأراضى البور إلى الشرق والشمال من القرية.
 
لكن حدث جلل كبير غيّر مسار القرية وهو بناء قناطر ادفينا كحاجز أخير لمياه النيل قبل البحر المتوسط على أطراف قريتنا، فهذا المشروع الضخم جلب مهاجرين وعمال أنفقوا أموالاً فى القرية، واستقر بعضهم بها، وافتتحت القناطر فى حدث جلل حضره كبراء القرية مع مصطفى باشا النحاس سنة 1950م، حين كان رئيساً للوزراء وحضرت معه الصحافة وكذلك كبار رجال الدولة، وصار الحدث الكبير يُحكى عنه لأشهر فى القرية، إذ ربطتها القناطر بالضفة الغربية للنيل، فصارت سيارات النقل والركاب تسير فوق القناطر لتُحدث رواجاً آخر للقرية، لكن صاحب هذا شىء لم يكن أهل القرية يحسبون حسابه، وهو الحدائق المجاورة للقرية، التى صارت متنزهاً عاماً، يزوره الناس من محافظات عدة، خاصة من الإسكندرية، هنا تبرز السياحة كمورد إضافى لاقتصاد القرية، التى كانت أسرة البنا تُجيد فيها صناعة أصناف من الحلوى إجادة كبرى حتى صار صيت حلويات مطوبس فى كل درب وصوب فى القرى والمدن المجاورة، فكان هؤلاء حينما يزورون مطوبس للتنزه، يحرصون على تناول هذه الحلويات والأخذ منها للأقرباء والأهل، فعرفنا "هريسة مطوبس" بالسميد وجوز الهند والزبيب والسمن البلدى الفلاحى، وأخرى يُضاف لها مكسرات، وأبدعوا فى نوع آخر سموه مربة حمام، ومازال إبداعهم مستمرا إلى اليوم، لكن هذا يقود أى مطوبسى لكى يتوقف أمام تراث الطعام فى مطوبس، الذى مازال باقياً إلى اليوم وإن بدأ يتوارى، فكان خال ابن عزب الحاج مهدى السايس يعشق الكسكسى بالمرق والأوز، وحين كان مجنداً فى الجيش المصرى إبان حرب أكتوبر 1973م، كانت ستى تنتظره بفارغ الصبر، وكنت أترقبه أنا أيضاً، فهو الخال الحبيب إلى القلب، كما أنه ليس لى أخوة أكبر فى السن فكان هو أخى الأكبر، كان خالى يروى لنا ذكرياته عن الحرب وعن الدبابات وعن الشهداء، فهو كان أحد أبطال حرب أكتوبر.
 
لكن يظل المطبخ المطوبسى له رونقه الخاص، وتقاليده، فمطوبس كلها يوم الخميس من كل أسبوع، كنت ترى كل السيدات فى منازلهن يعدون اللحوم لإعداد الكبابى، حيث يتم دق اللحم فى هون من النحاس ثم يُدق معه الأرز مع بعض التحابيش ثم يكبب هذا العجين فى هيئة مستديرة، والكبابى تسوى فى مرق اللحم، وفى بعض الأحيان فى مرق البط أو الأوز، وفى الشتاء يُضاف لهذه الوجبة القلقاس، لتصبح الطبلية عامرة بما لذ وطاب ومنها الأرز بالفتة.
 
المطبخ المطوبسى فى هذا السياق لا يخلو من استعمال الأوانى التقليدية، فها هو البرام الفخار تُعد فيه وجبة الدس بمهارة فائقة، حيث يأخذ طبقة رقيقة جداً من السمن البلدى فى كافة جوانبه ثم طبقة من الأرز ثم طبقة من اللحم أو البط أو الأوز ثم طبقة كبيرة من الأرز ثم يُضاف له اللبن ليدخل الفرن البلدى، ويخرج بعد فترة وجبة ألذ وأطعم مما يتخيل القارئ.
أعرف أنكم تشتهون هذه الوجبات، لكننى سأقف معكم عند أصناف الخبز المختلفة فى مطوبس ومنها الرقاق وعيش الرحا والبتاو الفرعونى وغيرها، إلا أن البكاكين خبز مميز إذ يُصنع من الدقيق ويعجن باللبن فى رمضان عند السحور، تُعد البكاكين لكن يُضاف لها طبقة من البيض والسمسم لتصبح شهية.
 
لكن هذه القرية الكبيرة التى ناضلت لتصبح مع منتصف سبعينيات القرن العشرين مدينة، كانت قصة التحول من قرية إلى مدينة معركة كفاح طويلة من أهالى مطوبس، توجت بالنصر فى عصر الرئيس أنور السادات، كان الكبراء يقدمون ويضغطون على الدولة وتظاهروا كثيراً، فهم فى قرية بها أطباء وصيادلة ومدارس وكثافة سكانية وأسواق. الخ.
قرية أكبر من مدن أخرى فلِما لا تصبح مدينة، وحين تحولت إلى مدينة فقد الناس حماسهم، بل أصبحت الرأسمالية المطوبسية تفوق أخلاق أهل القرية الحالمة.
 









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة