ملفات خاصة 1

إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فليهرب الديكتاتور بأسرع طائرة

الخميس، 20 يناير 2011 10:49 م

محمد الدسوقى رشدى

وهو يجرى إلى المطار بحثاً عن طائرة تهرب به من غضب شعبه، كان زين العابدين بن على يطلب من مرافقيه أن «يقرصوه» حتى يفيق من هذا الكابوس السخيف. بكل تأكيد فعل «بن على» ذلك وفعلت زوجته أكثر من فعل «القرص»، وهل كان أحد من أهل السياسة والتنظير والعلوم يتوقع فى لحظة ما أن ينقلب النظام التونسى على قفاه بهذا الشكل بعد 23 سنة، لم يسمع فيها أحد عن صرخة اعتراض أو مظاهرة معارضة لسياسة الرئيس التونسى الذى أصبح مخلوعا الآن؟!

هل كان أحد يتوقع أن يخرج الشعب الذى كان يخشى الهمس بكلمة «لا» خلف الجدران خوفاً من عيون الأمن، ليصرخ بألف «لا» و«لا» فى قلب الميادين التى كان ممنوعا فيها رفع لافتة أو الصياح سوى بما يصرح به الأمن، وبما يمجد بن على وليلى الطرابلسى؟!
وضع تونس خلال العشرين سنة الأخيرة فى ذيل قوائم الحريات والدول الأكثر قمعاً وقهراً وتقليصاً لمساحات الحريات، والأكثر قدرة على خنق جميع الأحزاب والحركات السياسية، وتفريغ الساحة من أى معارض حتى لو كان تايوانى الصنع أو ديكورى النزعة، كما يحدث فى مصر. جعل الأنظمة الديكتاتورية تنظر إلى «زين العابدين بن على» وتجربته بحقد بالغ على هذا النموذج الديكتاتورى المريح واللذيذ الذى لم يشهد يوماً انتفاضة شعبية، أو حركات تطالب بالإصلاح، أو شعباً يبدى أى رغبة فى المقاومة أو أى نوع من الضيق.

من أجل السابق ذكره من كلام ومن وقائع كان لابد أن يفعل «زين العابدين بن على» ذلك. كان لابد أن يطلب من أحد مرافقيه أن «يقرصه» فى أذنه بقوة حتى يستفيق من هذا الحلم، وهو تائه فى السماء لا يجد لطائرته مهبطا بعد أن كانت صالات كبار الزوار تفتح من أجل أن تنعم بخطوات حذائه. كان لابد أن يفعل «بن على» ذلك وما هو أكثر منه، فكيف لهذا الديكتاتور الذى حكم وطغى وتجبر أن يتخيل أن البلد الذى أخصاه من رموز المعارضة، سواء كانت إسلامية أو يسارية، ومن أشكال الحرية سواء كانت إعلامية أو حتى اجتماعية، قد ينتفض فى لحظة ما. كيف لهذا الرجل الذى اعتقد أنه أتم مهمته فى قتل الأمل داخل نفوس التوانسة وأرهبهم بالأمن والسجون ومسح كلمة التغيير بكل مشتقاتها من قواميس حياتهم أن يتخيل خروج مئات الألوف فى الشوارع مطالبين بعزله ومحاكمته؟!

هنا حيث توجد المفاجأة واللامتوقع من الأمور تكمن عبقرية ثورة الياسمين التونسية.. لم تكن هناك أى مؤشرات ولا توقعات ولا حتى أحلام ولا أمنيات، فجأة وبدون سابق إنذار تذكر التوانسة شاعرهم الجميل أبوالقاسم الشابى، وقرروا أن ينفذوا وصيته القديمة فخرجوا إلى الشارع ينفذونها دون أى تخطيط فقط دبت فى نفوسهم تلك الأبيات القديمة: (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر). وصل الغضب فى القلوب والنفوس إلى مداه ولم تعد الأقفاص الصدرية قادرة على حجزه، ثم قرر أحدهم أن يتبرع بالشرارة الأولى مقدما نفسه ضحية لثورة وانتفاضة لم يكن يعلم أن كانت ستشتعل أم لا، ولكن التوانسة لم يخذلوا بو عزيزى وأشعلوا النظام الحاكم كله من أجله.

إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. هنا تكمن العبقرية الأخرى فى ثورة الياسمين، فلا حاجة إلى أحزاب تنظر وتنظر وتخترع الشعارات، ولا حاجة إلى جنرال طماع يستغل رغبة الشعب فى التغيير لكى ينقلب على السلطة، ولا حاجة إلى شخصية بارزة لها ثقل دولى لكى تقود معركة التغيير، ولا حاجة إلى الفيس بوك ولا إلى أمريكا وإلى منظمات دولية ولا إلى أى منقذ خارجى، تلك هى العبقرية التى أتت بها ثورة الياسمين، حطمت نظريات السياسة والثورات وأكدت المفهوم القديم الذى طالما تغنى به الشعراء.. الشعب.

الشعب وحده يملك حق اختيار وتحديد مصيره، حتى إن حاول وفشل سيبقى هو صاحب القرار، هو الذى يقرر متى يصمت ومتى يتكلم ومتى يقول كفاية خلاص طفح الكيل، ولم يعد فى القلب مكان للمزيد من الغضب، هذا ماقدمه التوانسة لشعوب العالم أجمع وشعوب العرب بشكل خاص، حطموا الأوهام المتوارثة عن عجز الشارع العربى وخنوعه وخضوعه، وعدم قدرته على التحرك إلا فى ذيل منقذ خارجى أو جنرال داخلى، هكذا قدم التوانسة روشته الإصلاح الذى يبحث عنها العالم لدول العالم الثالث منذ عشرات السنوات، قدمها التوانسة فى أسبوع واحد بينما مراكز الأبحاث مازالت تبحث وتكتب آلاف الأوراق منذ عشرات السنين، دون أن تفقه ورقة واحدة فيها إلى ذلك السر الأعظم.. سر الشعب!