ثقافة

من يزرع الأمل؟ قصة قصيرة لمحمد فهيم

الخميس، 20 يناير 2011 01:48 م


محمد فهيم

لم تتمكن من الصمود أمام هبة الريح هذه المرة، فمالت حتى ساوت بساط الأرض، بعدما كانت تحيا شامخة بين أقرانها تناطح السحاب، تهفو إليها جميع الطيور، وتحلم أن تتنسم من عليل هوائها، وتستظل بأوراقها، وتنعم بعش من قش تلفه حول أفرعها الصغيرة، تربى فيه صغارها، ولكن من عجب أن يدوم الحال! فقد دب الشيب فى قلب الشجرة، وخارت قواها وضعف عزمها وجف عودها وانحنى جذعها وجفت مجاريها، بعدما امتنعت جذورها عن إمدادها بالغذاء والماء، فسقطت عنها أوراقها، وهجرتها عيون الناظرين، وتاهت عنها قبائل الزائرين، وما عاد لها بين السحاب مكان، واجتمع مجلس العصافير من سكانها وقرروا جميعًا الهروب، بعدما انهار حلمهم فى وطن آمن، إلا عصفورة واحدة، سقطت على الأرض تشكو جرحها، ولا تملك القدرة على أن تطوى الأرض وتخترق السماء، بحثًا عن موطن جديد، فقررت ألا تترك وطنها، وتبقى مع ذكرياتها حول شجرتها الممدة فاقدة الوعى والحركة، ورقدت والحزن يلفها، بعدما تركها وليفها لآلام جرحها وصدمت فيه، وعاشت مع نفسها لحظات الخوف من المستقبل، وتساءلت كيف تتحمل وهى العصفورة الضعيفة موجات الريح الشديد التى أسقطت شجرتها من عليائها؟ احتارت كثيرًا ولكنها لم تتردد، فبدأت تحفر بمنقارها الصغير جرحًا كان بالشجرة، حتى أقامت لنفسها جحرًا صغيرًا كفاها غدر المتربصين من أعدائها، وجلست تبكى أيام عز زال عنها، وسنى مجد ودعتها دونما أمل فى العودة، فانهمرت دموعها على الشجرة فألهبتها، وقالت لها أيا شجرتى إننى أحس بك أشعر بمصابك، ولكن لا حيلة لى، فقالت الشجرة: أيا عصفورتى لقد حملتك فروعى وأنت صغيرة، وعشت معك أيامك الأولى، ورأيتك تتعلمين فن السباحة فى الهواء، فتتعلقين بأوراقى سعيدة فرحة، بينما كنت أنا بين أقرانى فريدة، ولكن الحوادث لا تبقينا على حال واحدة، والصبر عليها جميل، حتى يزول الكرب، فكفكفت العصفورة دموعها، ونامت من ليلتها، بعدما أعياها الجوع والتعب، ورأت نفسها فى صورة أنيقة، بجوارها وليف له ذيل طويل، وريش ناعم، ومنقار يشق الحديد، يتمسح فيها وتأنس إليه، يلف حولها جناح الرحمة وذراع الأمان، أحضر لها بعضًا من الشعير، بينما ينام صغير لها جميل الشكل والرسم تطعمه بمنقارها، داخل عش أنيق مجدول بعناية، عود من القمح وآخر من الأرز، وكأنه صندوق من الجواهر، فنظرت خارجه وجدته متلألئًا كالقمر فى السماء، ومعلقًا على غصن طرى ينبض بالحياة، تطيب النفس العليلة لرؤياه، إنه لشجرتها تلك؟ نعم فقد دبت الحياة فى أوصالها من جديد.
مر طيف الحلم عليها مسرعًا، وانقضى الليل وظهر نور فجر يوم جديد، واخترقت الشمس الحجب، وسقط شعاع دافئ فوق جحرها البارد، فسرى الدفء فى جسدها فاستيقظت مسرعة، وتذكرت ليلتها الماضية، وحلمها الجميل، وعادت إليها ذكريات الصباح، فقد كانت تستنشق نسيم الفجر، تملأ به صدرها، تطير فى الهواء، تعلو وتعلو حتى السحاب، ثم تنزل وتنزل وتدنو من شجرتها، كلما ساقها حنين العودة، فزادت بهجتها وعاد إليها الأمل، وتأكدت أن الأزمة قد مرت بسلام، ورقصت بين أفرع الشجرة على أنغام خرير الماء، كريشة تحركها الرياح كيفما تشاء، وحكت منامها، وعادت السعادة لجناحيها فحركتهما بدون ألم، ثم ودعت شجرتها، وذهبت تبحث عن قوتها والأمل يحدوها، فشقت الهواء كسهم خرج من قوس صياد، ورأت بيضة من بعيد كانت قد سقطت من عشها، فألقت بنفسها نحوها تحتضنها وتقبلها، ثم حملتها برفق، وعادت إلى شجرتها لتخبرها بأن الحلم قد تحقق، وأن الأمل باق مادامت الحياة، وضعت بيضتها داخل جحرها، وأخذت تجمع أعواد القش وأوراق الشجر، وصنعت عشًا جميلاً زين شجرتها من جديد، كأنه التاج فوق جبينها، رأته الأشجار فغارت وتمنت لنفسها عشًا مثله، ورقدت العصفورة فوق بيضتها، حتى جاء اليوم الموعود، وخرج لها فرخ صغير، أحمر بلا ريش، فوضعت عليه جناحها، وخرجت لتخبر شجرتها بقدوم وليدها الجديد، فإذا بها ترى ما لم تتوقعه، فقد دب فى قلب شجرتها نبض الحياة مرة أخرى، ورأت عودًا أخضر شق الأرض واخترق الهواء، ففرحت به وزادت سعادتها، وأحضرت له الماء بمنقارها، وعاشت مع وليدها تربيه فوق الشجرة، وتزرع فيه الأمل.